يمكن القول أن تفسير الظواهر المحيرة و غير القابلة للفهم من قبل الإنسان قد فسرت بناء على قوى خارجة عن الإرادة و السيطرة الإنسانية، هذه القوى ( كالأرواح الشريرة ) لديها من المقدرة و القوة على تجاوز عالمنا الواقعي و لا يمكن و ضع ضوابط مادية أو غيرها للحد منها،  و بما أن الروح غير مفهومة و غير قابلة للتفسير الإنساني، أصبح الإنسان يعزي كل شيء غير قابل للفهم و التفسير لها،  وحتى أن المجتمعات القديمة و البدائية و كذلك المجتمعات الحديثة، مازال بعض الناس يؤمنون بهذه التفسيرات الغيبية الروحانية وأصبح الحل الوحيد لذلك هو السحر، إن مقدرة بعض الاشخاص على طرد تلك الأرواح الشريرة من الأجسام و تعديل السلوك الانساني أعطاهم مكانة مميزة، فالسحر أصبح بديلا و علاجا لكثير من المشاكل والأمراض، و هذا يعني أنه كلما انتشر السحر في مجتمع ما دل على تخلف ذلك المجتمع وكسله.(1).
و هنا يجب القول أن هيمنة التفسيرات الروحانية واللجوء الى الممارسات السحرية في حل المشاكل و إبعاد الأرواح الشريرة و تصليح السلوك المعوج لا تخص فقط المجتمعات المتخلفة، و لا يعني كذلك أن هذه المرحلة زالت مع قدوم التكنولوجيا و التطور المعرفي، بل مازالت موجودة في جميع الدول بدون استثناء، المتخلفة منها و المتطورة و لكن بنسب متفاوتة، فمثلا نجد المشعوذين و السحرة اليوم ينشطون بقوة في المجتمعات الغربية المتطورة، و هذا راجع الى الفراغ الروحي و طغيان المادة في هذه المجتمعات، حيث السحرة أصبحوا يستثمرون بقوة في هذا الفراغ، و كذلك نجدهم قد طوروا من وسائلهم، بل أصبح لهم مؤسسات و يستعملون الفضائيات و الأنترنيت.
و هكذا نجد أن منظور الشر / الشيطان من أقدم المداخل النظرية التي فسرت الانحراف و الجريمة، و الذي يقترح علينا أن ننظر الى موضوعي السبب والعلاج في عالم ما بعد الطبيعة، و قد سوى هذا المنظور بين الخطيئة و الجريمة، و هكذا تم النظر الى الجريمة على انها تعدي على إرادة الخالق الإله و العالم الإنساني هو أرض للمعركة القائمة بين قوى الخير و قوى الشر.
و هذا عادة ما يحدث من خلال مدخلين، الإغراءات الداخلية و الاستحواذ أو المس الشيطاني، و يعتبر المدخل النظري الأول ( الإغراءات الداخلية ) الطريق الأول لتفسير الانحراف و الجريمة، و خير دليل على ذلك ما أوردته الكتب السماوية و ما حدث لسيدنا آدم عليه السلام و حواء عندما أكلوا من الشجرة الممنوعة......
أما المدخل الثاني للجريمة و الانحراف حسب هذا المنظور فهو المس الشيطاني أو الاستحواذ و هو الأكثر حتمية، فالشخص المصاب بالمس لا يستطيع أن يتحكم في أفعاله و إرادته هنا معدومة، فهو غير قادر على التمييز بين الخير و الشر، أو الخطيئة و الحسنة، ولكن هل يصاب الإنسان الطيب بالمس الشيطاني أم الإنسان الشرير، فالمدخل هنا غير واضح و لكن يمكن القول أنه نادرا ما يصاب الإنسان الصالح بالمس الشيطاني.
أما عن العلاج فيتمثل في استراتيجية عامة، لا تميز بين الأنماط المختلفة للجريمة و الانحراف ، إجراءات أو طقوس دينية و عقوبات عامة، و علينا تطهير الجسد لهؤلاء المذنبين من المس الشيطاني، و أحيانا يضرب الشخص على منطقة معينة في جسمه لخروج الشيطان.
إن هذا النوع من الممارسات لتطهير المصاب بالمس الشيطاني، نجدها الى يومنا هذا منتشرة، خاصة عند بعض الرقاة (خاصة عند بعض الرقاة، حيث العديد منهم قد ارتكب جنح إما قتل أو عاهة، و هذا من خلال العنف الذي يمارسونه ضد المصابين بالأمراض النفسية و التي يؤولونها على أنها مس من الشيطان.
و نحن نلاحظ انه اليوم و خاصة بعد العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر، العديد من الدجالين و المشعوذين أخذو من الرقية مهنة لهم، و أصبحوا من الأغنياء و هذا على حساب المجتمع و المصابين بالأمراض النفسية و الفيزيولوجية،  و التي عجز الطب الحديث على علاجها، و عليه فالجريمة و الانحراف أصبحت ترتكب من طرف الذين يدعون علاج الآخرين و ليس فقط من طرف المصابين بالمس الشيطاني و الذي نادرا ما يسلكون سلوكا إجراميا.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
01 / عايد عواد الكوريات: نظريات علم الجريمة، دار الشروق للنشر و التوزيع، عمان، الأردن، 2004، ص 18.
 
Top