عمل " دي توليو " أستاذا لعلم طبائع المجرم بجامعة روما، و يعد من أبرز الباحثين الجنائيين الإيطاليين، و تعتبر دراساته من أهم دراسات المدرسة البيولوجية الحديثة، و قد أجرى ملاحظات طويلة ومستمرة بدأها عام 1920 على عدة آلاف من المجرمين وذلك بمعهد الوقاية و العقوبة بروما، و قد ساعده في أبحاثه علم الطب التكويني، و علم النماذج الإنسانية، كما كان تحت بصره النظريات التكوينية السابقة، و بصفة خاصة تلك التي تميز المجرمين من غير المجرمين على أساس التغاير في التكوين العضوي.(1).
و أوصلته ملاحظاته الى فكرة مؤداها أن سبب الإجرام يكمن في التكوين لشخصية المجرم، و في عام 1928 صدر كتاب بمناسبة ذكرى الأستاذ " فير " بعنوان " العامل الأساسي الخاص للإجرام " نشر فيه لأول مرة فكرة وجود عامل خاص و أساسي للإجرام و هو الخصائص التكوينية الخاصة.(2).
و قد أكدت له أبحاثه اللاحقة ما انتهى اليه، و ضمن نتائج أبحاثه في كتب صدر له عام 1929 بعنوان " التكوين الاجرامي " حيث ركز فيه على فكرة وجود استعداد سابق في التكوين الخاص لبعض الجناة يمكن اعتباره عاملا جوهريا لسلوكهم الاجرامي.
و في هذا الصدد يقول " دي تيليو ": " فكما يتمتع الانسان بتكوين نفسي، تكوين عقلي، و تكوين عصبي، بل و تكوين يجعل له قابلية الاصابة بأمراض معينة كالسل و التهابات المسالك البولية و غيرها، يوجد أيضا تكوين إجرامي ".
هذا التكوين الاجرامي هو نفسه الشخصية الاجرامية، فهو مقابل أو مراد لتلك الشخصية، و من ثم يجب دراسة هذه الشخصية من جميع جوانبها العضوية و النفسية، بالإضافة الى دراسة تاريخ حياة الشخص المجرم و ذكرياته، كما يجب دراسة العوامل الاجتماعية.
و يرى " دي تيليو " أن الجريمة صراع بين مقومات الحياة الاجتماعية وبين الدوافع الغريزية الفردية، تغلبت فيها النزعات الأنانية الشريرة على قوة الردع المستمدة من البيئة و القيم الاجتماعية.
و يقرب " دي تيليو " فكرته الى الأذهان فيشبه السلوك الاجرامي بالمرض، فكما أن اصابة الجسم بالمرض ترجع الى ضعف مقاومته للجراثيم، كذلك الجريمة يتوقف ارتكابها على ضعف قوة الفرد على التكيف مع مقتضيات الحياة الاجتماعية نتيجة خلل عضوي و نفسي يتمثل فيه الاستعداد الاجرامي، و بعبارة أخرى فالجريمة تكشف عن عدم قابلية مرتكبها على التكيف مع البيئة الاجتماعية.(3).
و يذهب " دي تيليو " الى أن أسباب عدم القابلية للتكيف مع البيئة الاجتماعية ترجع الى نوعين من العوامل، النوع الأول عوامل مصدرها النمو العاطفي المعيب للشخص بسبب ظروف داخلية تتصل بطاقته الغريزية، و ما يصحب ذلك من عدم تقبل مثل هذا الشخص للقيم الاجتماعية المكتسبة و التوافق مع الأنماط الاجتماعية السائدة، و النوع الثاني يتضمن عوامل ترجع الى العيوب الجثمانية الناجمة عن الوراثة أو الهرمونات أو التهاب المخ، و من شأن هذا النوع من العوامل أن يخلق شخصية سيكو بأتية لا يوجد لديها القابلية للتوافق مع المجتمع بأي حال.
و يعني توافر النوع الاول أو النوع الثاني من العوامل السابقة في شخص معين، القول بأن هذا الشخص لديه استعداد إجرامي أو " تكوين إجرامي ".(4).
هذا الاستعداد لازم لارتكاب السلوك الاجرامي و لكن لا يكفي بمفرده لتحقق هذا السلوك، بل لابد من تفاعله مع بقية العوامل الأخرى، و بصفة خاصة العوامل البيئية، فالتكوين الاجرامي عند " دي تيليو " هو النواة التي يتفاعل معها باقي العوامل للاتجاه نحو تنفيذ الجريمة.
و يقسم " دي تيليو " التكوين أو الاستعداد الإجرامي الى قسمين، الأول أصيل أو تكويني، و الثاني استعداد إجرامي أو " تكوين إجرامي ".
الاستعداد الاجرامي التكويني أو الأصيل يكون مصدره الخلل في التكوين العصبي و النفسي، بحيث يجعل لدى من يتوافر لديهم ميلا فطريا الى الاجرام، و هذا النوع من الاستعداد الاجرامي يقف وراءه كثير من الجرائم الخطيرة و جرائم الاعتياد، و احتراف الاجرام عموما، و يطلق " دي تيليو " على من يتوافر لديهم هذا الاستعداد " المجرمون بالتكوين " .
أما الاستعداد الاجرامي العضوي فيرجع أساسا الى عوامل شخصية و عوامل اجتماعية تضعف بسببها مقاومة الشخص لرغباته و مشاعره، فيندفع وقتيا الى ارتكاب الجريمة، مثال ضعف السيطرة على مشاعر الحقد و الغيرة، و هذا الاستعداد العارض يمثل المصدر بالنسبة للجرائم غير الخطرة، و يسمى المجرمون الذين يوجد لديهم هذا الاستعداد بالمجرمين العرضيين.
و سواء تعلق الأمر بمجرمي القسم الأول أو القسم الثاني فلا بد في كلا الأمرين من توافر عوامل أخلاى بيئية أو اجتماعية، و هذه العوامل يكون دورها بالنسبة لمجرمي القسم الأول، كاشفة عن تكوينهم الاجرامي، بينما يقتصر دورها بالنسبة لمجرمي القسم الثاني على ايجاد ظرف مهيأ للإجرام، و في كل الأحوال فالجريمة يكون مصدرها عوامل عضوية و اجتماعية، و لهذا تصبح المعادلة التي تقرر بأن
الاستعداد الإجرامي + البيئة = الجريمة.
و هذه المعادلة صحيحة سواء كان الاستعداد الاجرامي أصيلا أم عرضيا، فالجريمة في الفرض الأول صادرة عن مجرم ذي تكوين إجرامي، و في الفرض الثاني صادرة عن مجرم بالعاطفة أو بالصدفة.(5).
و عليه يمكن القول بأن نظرية " دي تيليو " جاءت كرد فعل لنظرية " لمبروزو " التي ركزت على وجود المجرم بالتكوين إلا أنه أنكر كونه عاملا وحيدا للسلوك الاجرامي، و إنما يشكل مع غيره من العوامل الاجتماعية عاملا مركبا للسلوك الاجرامي.
و لهذا نجده وضع فروضه الخاصة بالفرعين الأساسيين للمجرمين – التي سبق ذكرها – و على هذا الأساس نجده قد ميز بين صورتين رئيسيتين للاستعداد الاجرامي، الأولى عرضية و الثانية ثابتة.
فالأولى هي عوامل فردية و اجتماعية أقوى من قدرة و استطاعة الجاني على ضبط مشاعره، فتحرك عوامل الجريمة لديه و من أنواعها الحقد و الغيرة.
و الثانية متجسدة في تكوين الانسان و تتركز في ناحيتي التكوين العضوي و النفسي للشخصية الفردية و هذا ما يسميه أيضا " دي تيليو " الاستعداد الأصيل للإجرام المنبعث عن شخصية الجاني و الذي يمثل مصدرا للجرائم الخطيرة.(6).
لقد اعتبر " دي تيليو " بأن لإفرازات الغدد أثرها الكبير على سير أجهزة الجسم، و التي لها انعكاساتها في الوقت ذاته على مظاهر الحياة النفسية للإنسان، و بالتالي على معالم شخصيته، و قد خلص " دي تيليو " في النهاية الى وجود ( نموذج بشري غددي إجرامي).
إلا أن هذا لا يعني أنه ربط السلوك الاجرامي بالاختلالات التي تصيب وضائف الغدد فقط، و إنما كان ذلك التأكيد في إطار تفسيره الأوسع لموضوع التوين الإجرامي الفطري لدى الفرد، حيث قدم " دي تيليو " منهجا علميا متكاملا لدراسة أعراض الشخصية الاجرامية، فأوضح أن دراسة مثل هذه الشخصية تكون من النواحي المورفولوجية و الفسيولوجية و النفسية، فالناحية المورفولوجية تتناول شكل جسم الانسان و ملامحه الظاهرة، و الناحية الفسيولوجية تتناول وظائف الجسم كوظائف أجهزة التنفس و الدورة الدموية و الهضم و التناسل، بالإضافة الى وظائف الغدد الصماء، أما من الناحية النفسية فتتناول الغرائز الانسانية.(7).
و اعتبر بالتالي أن التكوين الاجرامي الفطري هو استعداد طبيعي يمثل نزعة تدفع الفرد الى ارتكاب الجريمة، كما أن هذا التكوين الفطري يخالف باختلاف أصناف المجرمين، حيث صنف " دي تيليو " المجرمين من حيث تكوينهم الفطري الى أربعة أصناف هي:(8).
01 / المجرم ذو النمو الناقص.
02 / المجرم ذو الاتجاه العصبي.
03 / المجرم ذو الاتجاه السايكوباتي.
04 / المجرم ذو الاتجاه المختلط و الذي يجمع كل الصفات السابقة.
هذا فيما يخص المجرمين بالتكوين، أما الصنف الثاني و الخاص بالمجرمين العرضيين فنجده يحتوي على :
01 / المجرم العرضي الصرف.
02 / المجرم العرضي الشائع.
03 / المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية و عاطفية.
و نحاول بعد هذا العرض إعطاء فكرة عن كل نوع من الأنواع السابقة الذكر:
* بالنسبة للمجرمين بالتكوين :
01 / المجرم ذو النمو الناقص : يمتاز هذا النوع بخصائص اجتماعية، نفسية، خلقية، تجعله أقرب الى الانسان المتوحش الذي تكلم عنه " لمبروزو " عند تناوله " للمجرم المطبوع " .
02 / المجرم ذو الاتجاه العصبي السايكوباتي : و هو النوع الذي ينفرد بخلل على مستوى الجهاز العصبي و هذا الخلل واضح و دقيق، يجعله شخصا سريع التأثر و الانفعال، و يشمل هذا النوع المصابين بمرض الصرع و الهستيريا.
03 / المجرم ذو التجاه السايكوباتي : يتميز هذا النوع بخلل واضح في ملكاته الذهنية بحيث لا يصل الى حد المرض العقلي أو الذهان، و يعاني هذا الشخص من قصور في ملكتي النقد و الاستنتاج، الأمر الذي يؤدي الى سرعة الانسياق وراء بعض الأفكار المتسلطة التي تستحوذ على تفكيره و الى شدة الاعتداد بالذات، و أحيانا الى الانطوائية أو التقلب النفساني أو غير ذلك من الأمراض النفسية المرضية الأخرى
04 / المجرم ذو الاتجاه المختلط : و هو الذي يجمع بين خصائص و صفات أكثر من فئة واحدة من الفئات المتقدمة الذكر.
* بالنسبة للمجرمين العرضيين :
01 / المجرم العرضي الصرف : و هو الذي يرتكب عادة أفعال قليلة الأهمية نتيجة دوافع و ظروف استثنائية جدا، بل ربما لم يتوقعها و ليس بمقدوره توقعها.
02 / المجرم العرضي الشائع : الذي يمكن أن تكتشف لديه علامات النقص الخلقي و التي تتفاوت في مدى وضوحها، و بالتالي يتوافر لديه استعداد الى الإقبال على بعض الممارسات المضادة للجميع بوجه عام، و الى ارتكاب جرائم أشد خطورة ضد المال، و هؤلاء يمكن بسهولة أن يقعوا في جرائم خطيرة و أن يتحولوا الى مجرمين معتادين.
03 / المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية و عاطفية : و هذه الحالات تحطم لديه الاتزان الروحي و الخلقي المعتاد الذي يتجاوز حدودا معينة، و التي قد تعمل أيضا في صورة انفعالات أو عواطف ذات طابع فسيولوجي ( متصل بوظائف الأعضاء ) و هنا يكتسي التكوين الفسيولوجي النفسي الفردي أهمية خاصة.
إن نظرية " دي تيليو " و إن لم تسلم من النقد كذلك إلا أنها تعتبر بالنسبة لعلم الإجرام أكثر النظريات قبولا.
و من الانتقادات التي تعرضت لها نذكر :
أ) لقد بالغت في اعتبار تأثير الجانب العاطفي المختل في سلوك المجرم، و هذا يعني أن نظرية " دي تيليو " كانت كغيرها تقريبا في التركيز على الجانب الواحد، و هذا ما جعلها تنعت بالنظرية الأحادية الطرح.
ب) إن " دي تيليو " وقع فيما وقع فيه أستاذه " لمبروزو " في استخلاصه قانونا عاما من حالات قليلة أخضعت لتجارب لا ترقى الى مستوى استخلاص القانون العام.
ج) إهماله جانب المقارنة بين المجرمين و الأسوياء و الذي يعد على جانب كبير من الأهمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
01 / د. علي عبد القادر قهوجي: علم الإجرام وعلم العقاب، ص 51.
02 / نفس المرجع، ص 51.
03 /di tillio, op cit, p 33.
04 / نفس المرجع، ص 52.
05 / نفس المرجع، ص 53 – 54.
06 / محمد خلف: مبادئ علم الإجرام، ص 186.
07 / عدنان الدوري: أسباب الجريمة و طبيعة السلوك الإجرامي، ط3، منشورات دار السلاسل، الكويت، 1984، ص 135.
08 / رمسيس بنهام: علم الإجرام، الجزء الاول، مطبعة دار المعارف، الإسكندرية، 1961، ص 21.
و أوصلته ملاحظاته الى فكرة مؤداها أن سبب الإجرام يكمن في التكوين لشخصية المجرم، و في عام 1928 صدر كتاب بمناسبة ذكرى الأستاذ " فير " بعنوان " العامل الأساسي الخاص للإجرام " نشر فيه لأول مرة فكرة وجود عامل خاص و أساسي للإجرام و هو الخصائص التكوينية الخاصة.(2).
و قد أكدت له أبحاثه اللاحقة ما انتهى اليه، و ضمن نتائج أبحاثه في كتب صدر له عام 1929 بعنوان " التكوين الاجرامي " حيث ركز فيه على فكرة وجود استعداد سابق في التكوين الخاص لبعض الجناة يمكن اعتباره عاملا جوهريا لسلوكهم الاجرامي.
و في هذا الصدد يقول " دي تيليو ": " فكما يتمتع الانسان بتكوين نفسي، تكوين عقلي، و تكوين عصبي، بل و تكوين يجعل له قابلية الاصابة بأمراض معينة كالسل و التهابات المسالك البولية و غيرها، يوجد أيضا تكوين إجرامي ".
هذا التكوين الاجرامي هو نفسه الشخصية الاجرامية، فهو مقابل أو مراد لتلك الشخصية، و من ثم يجب دراسة هذه الشخصية من جميع جوانبها العضوية و النفسية، بالإضافة الى دراسة تاريخ حياة الشخص المجرم و ذكرياته، كما يجب دراسة العوامل الاجتماعية.
و يرى " دي تيليو " أن الجريمة صراع بين مقومات الحياة الاجتماعية وبين الدوافع الغريزية الفردية، تغلبت فيها النزعات الأنانية الشريرة على قوة الردع المستمدة من البيئة و القيم الاجتماعية.
و يقرب " دي تيليو " فكرته الى الأذهان فيشبه السلوك الاجرامي بالمرض، فكما أن اصابة الجسم بالمرض ترجع الى ضعف مقاومته للجراثيم، كذلك الجريمة يتوقف ارتكابها على ضعف قوة الفرد على التكيف مع مقتضيات الحياة الاجتماعية نتيجة خلل عضوي و نفسي يتمثل فيه الاستعداد الاجرامي، و بعبارة أخرى فالجريمة تكشف عن عدم قابلية مرتكبها على التكيف مع البيئة الاجتماعية.(3).
و يذهب " دي تيليو " الى أن أسباب عدم القابلية للتكيف مع البيئة الاجتماعية ترجع الى نوعين من العوامل، النوع الأول عوامل مصدرها النمو العاطفي المعيب للشخص بسبب ظروف داخلية تتصل بطاقته الغريزية، و ما يصحب ذلك من عدم تقبل مثل هذا الشخص للقيم الاجتماعية المكتسبة و التوافق مع الأنماط الاجتماعية السائدة، و النوع الثاني يتضمن عوامل ترجع الى العيوب الجثمانية الناجمة عن الوراثة أو الهرمونات أو التهاب المخ، و من شأن هذا النوع من العوامل أن يخلق شخصية سيكو بأتية لا يوجد لديها القابلية للتوافق مع المجتمع بأي حال.
و يعني توافر النوع الاول أو النوع الثاني من العوامل السابقة في شخص معين، القول بأن هذا الشخص لديه استعداد إجرامي أو " تكوين إجرامي ".(4).
هذا الاستعداد لازم لارتكاب السلوك الاجرامي و لكن لا يكفي بمفرده لتحقق هذا السلوك، بل لابد من تفاعله مع بقية العوامل الأخرى، و بصفة خاصة العوامل البيئية، فالتكوين الاجرامي عند " دي تيليو " هو النواة التي يتفاعل معها باقي العوامل للاتجاه نحو تنفيذ الجريمة.
و يقسم " دي تيليو " التكوين أو الاستعداد الإجرامي الى قسمين، الأول أصيل أو تكويني، و الثاني استعداد إجرامي أو " تكوين إجرامي ".
الاستعداد الاجرامي التكويني أو الأصيل يكون مصدره الخلل في التكوين العصبي و النفسي، بحيث يجعل لدى من يتوافر لديهم ميلا فطريا الى الاجرام، و هذا النوع من الاستعداد الاجرامي يقف وراءه كثير من الجرائم الخطيرة و جرائم الاعتياد، و احتراف الاجرام عموما، و يطلق " دي تيليو " على من يتوافر لديهم هذا الاستعداد " المجرمون بالتكوين " .
أما الاستعداد الاجرامي العضوي فيرجع أساسا الى عوامل شخصية و عوامل اجتماعية تضعف بسببها مقاومة الشخص لرغباته و مشاعره، فيندفع وقتيا الى ارتكاب الجريمة، مثال ضعف السيطرة على مشاعر الحقد و الغيرة، و هذا الاستعداد العارض يمثل المصدر بالنسبة للجرائم غير الخطرة، و يسمى المجرمون الذين يوجد لديهم هذا الاستعداد بالمجرمين العرضيين.
و سواء تعلق الأمر بمجرمي القسم الأول أو القسم الثاني فلا بد في كلا الأمرين من توافر عوامل أخلاى بيئية أو اجتماعية، و هذه العوامل يكون دورها بالنسبة لمجرمي القسم الأول، كاشفة عن تكوينهم الاجرامي، بينما يقتصر دورها بالنسبة لمجرمي القسم الثاني على ايجاد ظرف مهيأ للإجرام، و في كل الأحوال فالجريمة يكون مصدرها عوامل عضوية و اجتماعية، و لهذا تصبح المعادلة التي تقرر بأن
الاستعداد الإجرامي + البيئة = الجريمة.
و هذه المعادلة صحيحة سواء كان الاستعداد الاجرامي أصيلا أم عرضيا، فالجريمة في الفرض الأول صادرة عن مجرم ذي تكوين إجرامي، و في الفرض الثاني صادرة عن مجرم بالعاطفة أو بالصدفة.(5).
و عليه يمكن القول بأن نظرية " دي تيليو " جاءت كرد فعل لنظرية " لمبروزو " التي ركزت على وجود المجرم بالتكوين إلا أنه أنكر كونه عاملا وحيدا للسلوك الاجرامي، و إنما يشكل مع غيره من العوامل الاجتماعية عاملا مركبا للسلوك الاجرامي.
و لهذا نجده وضع فروضه الخاصة بالفرعين الأساسيين للمجرمين – التي سبق ذكرها – و على هذا الأساس نجده قد ميز بين صورتين رئيسيتين للاستعداد الاجرامي، الأولى عرضية و الثانية ثابتة.
فالأولى هي عوامل فردية و اجتماعية أقوى من قدرة و استطاعة الجاني على ضبط مشاعره، فتحرك عوامل الجريمة لديه و من أنواعها الحقد و الغيرة.
و الثانية متجسدة في تكوين الانسان و تتركز في ناحيتي التكوين العضوي و النفسي للشخصية الفردية و هذا ما يسميه أيضا " دي تيليو " الاستعداد الأصيل للإجرام المنبعث عن شخصية الجاني و الذي يمثل مصدرا للجرائم الخطيرة.(6).
لقد اعتبر " دي تيليو " بأن لإفرازات الغدد أثرها الكبير على سير أجهزة الجسم، و التي لها انعكاساتها في الوقت ذاته على مظاهر الحياة النفسية للإنسان، و بالتالي على معالم شخصيته، و قد خلص " دي تيليو " في النهاية الى وجود ( نموذج بشري غددي إجرامي).
إلا أن هذا لا يعني أنه ربط السلوك الاجرامي بالاختلالات التي تصيب وضائف الغدد فقط، و إنما كان ذلك التأكيد في إطار تفسيره الأوسع لموضوع التوين الإجرامي الفطري لدى الفرد، حيث قدم " دي تيليو " منهجا علميا متكاملا لدراسة أعراض الشخصية الاجرامية، فأوضح أن دراسة مثل هذه الشخصية تكون من النواحي المورفولوجية و الفسيولوجية و النفسية، فالناحية المورفولوجية تتناول شكل جسم الانسان و ملامحه الظاهرة، و الناحية الفسيولوجية تتناول وظائف الجسم كوظائف أجهزة التنفس و الدورة الدموية و الهضم و التناسل، بالإضافة الى وظائف الغدد الصماء، أما من الناحية النفسية فتتناول الغرائز الانسانية.(7).
و اعتبر بالتالي أن التكوين الاجرامي الفطري هو استعداد طبيعي يمثل نزعة تدفع الفرد الى ارتكاب الجريمة، كما أن هذا التكوين الفطري يخالف باختلاف أصناف المجرمين، حيث صنف " دي تيليو " المجرمين من حيث تكوينهم الفطري الى أربعة أصناف هي:(8).
01 / المجرم ذو النمو الناقص.
02 / المجرم ذو الاتجاه العصبي.
03 / المجرم ذو الاتجاه السايكوباتي.
04 / المجرم ذو الاتجاه المختلط و الذي يجمع كل الصفات السابقة.
هذا فيما يخص المجرمين بالتكوين، أما الصنف الثاني و الخاص بالمجرمين العرضيين فنجده يحتوي على :
01 / المجرم العرضي الصرف.
02 / المجرم العرضي الشائع.
03 / المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية و عاطفية.
و نحاول بعد هذا العرض إعطاء فكرة عن كل نوع من الأنواع السابقة الذكر:
* بالنسبة للمجرمين بالتكوين :
01 / المجرم ذو النمو الناقص : يمتاز هذا النوع بخصائص اجتماعية، نفسية، خلقية، تجعله أقرب الى الانسان المتوحش الذي تكلم عنه " لمبروزو " عند تناوله " للمجرم المطبوع " .
02 / المجرم ذو الاتجاه العصبي السايكوباتي : و هو النوع الذي ينفرد بخلل على مستوى الجهاز العصبي و هذا الخلل واضح و دقيق، يجعله شخصا سريع التأثر و الانفعال، و يشمل هذا النوع المصابين بمرض الصرع و الهستيريا.
03 / المجرم ذو التجاه السايكوباتي : يتميز هذا النوع بخلل واضح في ملكاته الذهنية بحيث لا يصل الى حد المرض العقلي أو الذهان، و يعاني هذا الشخص من قصور في ملكتي النقد و الاستنتاج، الأمر الذي يؤدي الى سرعة الانسياق وراء بعض الأفكار المتسلطة التي تستحوذ على تفكيره و الى شدة الاعتداد بالذات، و أحيانا الى الانطوائية أو التقلب النفساني أو غير ذلك من الأمراض النفسية المرضية الأخرى
04 / المجرم ذو الاتجاه المختلط : و هو الذي يجمع بين خصائص و صفات أكثر من فئة واحدة من الفئات المتقدمة الذكر.
* بالنسبة للمجرمين العرضيين :
01 / المجرم العرضي الصرف : و هو الذي يرتكب عادة أفعال قليلة الأهمية نتيجة دوافع و ظروف استثنائية جدا، بل ربما لم يتوقعها و ليس بمقدوره توقعها.
02 / المجرم العرضي الشائع : الذي يمكن أن تكتشف لديه علامات النقص الخلقي و التي تتفاوت في مدى وضوحها، و بالتالي يتوافر لديه استعداد الى الإقبال على بعض الممارسات المضادة للجميع بوجه عام، و الى ارتكاب جرائم أشد خطورة ضد المال، و هؤلاء يمكن بسهولة أن يقعوا في جرائم خطيرة و أن يتحولوا الى مجرمين معتادين.
03 / المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية و عاطفية : و هذه الحالات تحطم لديه الاتزان الروحي و الخلقي المعتاد الذي يتجاوز حدودا معينة، و التي قد تعمل أيضا في صورة انفعالات أو عواطف ذات طابع فسيولوجي ( متصل بوظائف الأعضاء ) و هنا يكتسي التكوين الفسيولوجي النفسي الفردي أهمية خاصة.
إن نظرية " دي تيليو " و إن لم تسلم من النقد كذلك إلا أنها تعتبر بالنسبة لعلم الإجرام أكثر النظريات قبولا.
و من الانتقادات التي تعرضت لها نذكر :
أ) لقد بالغت في اعتبار تأثير الجانب العاطفي المختل في سلوك المجرم، و هذا يعني أن نظرية " دي تيليو " كانت كغيرها تقريبا في التركيز على الجانب الواحد، و هذا ما جعلها تنعت بالنظرية الأحادية الطرح.
ب) إن " دي تيليو " وقع فيما وقع فيه أستاذه " لمبروزو " في استخلاصه قانونا عاما من حالات قليلة أخضعت لتجارب لا ترقى الى مستوى استخلاص القانون العام.
ج) إهماله جانب المقارنة بين المجرمين و الأسوياء و الذي يعد على جانب كبير من الأهمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
01 / د. علي عبد القادر قهوجي: علم الإجرام وعلم العقاب، ص 51.
02 / نفس المرجع، ص 51.
03 /di tillio, op cit, p 33.
04 / نفس المرجع، ص 52.
05 / نفس المرجع، ص 53 – 54.
06 / محمد خلف: مبادئ علم الإجرام، ص 186.
07 / عدنان الدوري: أسباب الجريمة و طبيعة السلوك الإجرامي، ط3، منشورات دار السلاسل، الكويت، 1984، ص 135.
08 / رمسيس بنهام: علم الإجرام، الجزء الاول، مطبعة دار المعارف، الإسكندرية، 1961، ص 21.